( يوم جاء البجع)
تنهيدة عميقة تصدرها عند رؤيتك للنتيجة..ها قد نجحنا بعد السهر و الإعياء و تخزريط الدكاترة ..نجحنا بعد أن اعتكفنا حتى نسينا لون السماء و رائحة الهواء.. نجحنا بعد أن نسينا وجود عالم آخر غير عالم الكتب و التركيزات ...فمن حقي أن أصرخ ..نجحنا نجحنا نجحنا !!!
( حاجة والله كبيرة ) يقولها أحد الأشخاص مقاطعا صرختك ... تشعر بالغضب للحظة ثم تقرر الترفع عن الرد عليه ..فأنت الآن دكتور و لا يجب أن تلتفت لأقوال العامة ..كما أنه من الممكن جدا أن ( تأكل طريحة ) تزيل ما تبقى من كرامتك ..فكلنا نعلم أن الطب لا يربي عضلات..
تذهب للمستشفى في أول يوم لك كطالب امتياز ...تلقي نظرة على هذا الصرح المكون من ثلاث طوابق كاملة و تتذكر ذلك الشعور بالرهبة الذي انتابك عندما رأيته لأول مرة ..فدراستك في الكلية لأربع سنوات لم تهيئ جهازك العصبي لتحمل أي ارتفاع عن مستوى سطح البحر..!
ترتدي معطفك الأبيض المكوي وتتبختر في الممرات حالماً...فهذا أقل ما تستحق بعد سنوات من العذاب ..و فجأة يقطع سيل أفكارك صراخ من خلفك (حول من الطريق يا فرخ..!! ) و طبقا لنمط تربيتك فإنك ستدرك أنك أنت المقصود بالفرخ فتبتعد بسرعة عن الطريق لتلاحظ ذلك العجوز الذي يجري حاملا ابنه الدامي بين ذراعيه ...بينما يتبعه ابنه الآخر بباقي أجزاء الضحية..!!
تسرع إلى حجرة الطوارئ لتجد أن الممرضين قد ابتدءوا عملهم بالفعل , فهذا يجمع الأصابع من على الأرض وذلك يرجع العينين إلى مكانهما , فلا تجد ما تفعله غير أن تقف في الزاوية مكتفيا بالدعم اللوجستي...و لا تمر لحظات حتى يموت المريض, وهو أمر متوقع خاصة إذا تم احضاره على دفعات كما هو الحال هنا .. ومع ذلك تبقى المهمة البغيضة وهي ابلاغ أهل المريض ...وهنا يلتفت إليك الممرضون في خبث و يلعبون على حقيقة أنك غر و مليء بعقد النقص فيستخدمون عبارات على غرار (عندك يا دكتور ... والله ما يقدّم حد إلا أنت ..!!) وهم يدفعونك باتجاه الباب ...فتعدل نظارتك و تسوي ياقتك ثم تخرج إلى صالة الانتظار لتجد الأب متهالكا من الحزن ...فتمسك كتفيه قائلا (البقية في عمرك يا حا...) ولا تكمل عبارتك حتى يغشي عينيك ضوء قوي تنتبه بعده لتجد أنك مكوّم في زاوية الغرفة و الدماء تنساب بغزارة من أنفك الذي اختلط بفمك إثر لكمة وجهها لك الحاج بقوة أسطورية يصعب تخيلها ..... وفي لحظات يتقافز من في الغرفة للإمساك بالحاج الذي يرغي و يزبد و يتوعدك بالويل و الثبور , بينما تتصارخ النساء داعيات على كل من يسكن بيتكم حتى القطط...فحسب وجهة نظرهم أنت المسئول عن موت ابنهم بجهلك و إهمالك وليست الحافلة التي داست على رأسه ثلاث مرات..
تجر نفسك إلى نقطة الشرطة آملا باسترجاع جزء من كرامتك .. ولا تدخلها حتى تجد أنها ممتلئة بوجهاء عائلة المريض و عقلائها (الذين اختبئوا كالجرذان أثناء المعركة ) و قد جاءوا لإقناعك بالتنازل عن حقك و إيثار الحل السلمي و أن ما حدث لا يتعدى كونه لحظة غضب بسيطة قد أدت إلى تهشيم وجهك ...تستغرب كلامهم و أنت ترى الوالد و أبناءه من بعيد و هم يشيرون إليك و يمررون أصابعهم على أعناقهم مهددينك بالذبح.... ومع ذلك تحاول تناسي ما رأيت و تقرر التوقيع على التنازل كأي مواطن ليبي صالح يخشى التعرض لمزيد من الطرائح...!!
بعد نصف ساعة تخرج من غرفة الطوارئ وقد تم فصل ملامحك عن بعضها...تلتفت يمينا و يسارا لتتأكد من عدم وجود أحد من أسرة المريض ثم تتسلل إلى القسم لتكمل مناوبتك الليلية ...وبينما تجلس حزينا مراقبا طريق الصراصير السريع تسمع صوتا من خلفك فتلتفت لتجد (فرفور) ينظر إليك في حنان وقد صعبت عليه ...و فرفور هذا لمن لا يعرفه هو كبير قبائل (القناطشة) التي نزحت إلى المستشفى على خلفية أعمال التطهير العرقي التي طالتها في المدينة.....يغيب حضرته للحظة ثم يأتيك بقطعة من اللحم يبدو أنها من قدم المريض في السرير(3) ....تلتقط القطعة لتعيد إلصاقها و أنت تتفكر في أصالة هذا المدعو (فرفور).... فالرعاية و الاهتمام التي أولته إياها إدارة المستشفى منذ استقبلته وعائلته بصدر رحب قد أثمرت فيه حس الشهامة و الكرم تجاه أولئك الأقل منه حظا..!!
في منتصف الليل تسمع من ينادي عليك فتذهب لتجد رجلا ينظر إليك باحتقار وهو يلقي إليك بابنه الذي انتبه الآن فقط إلى كونه يختنق منذ الصيف الماضي وقرر إحضاره إلى المستشفى ...تحاول فحص الابن والتغاضي عن إهانات الأب التي يلعن اليوم الذي أنزل من قدره ليأتي إلى هذا المستشفى القذر على الرغم من أنه يرتدي (كاط) يبدو من منظره أن صاحبه السابق لقي حتفه رميا بالرصاص..... و في النهاية تقوم بكتابة وصفة طبية رغم يقينك بأنه سيلقيها مع ابنه في إحدى زويا البيت لحين شحنه إلى تونس كي تعاينه البروفيسورة (صوفيا) المشهود لها بـ(إمكانياتها) المتقدمة..
و ما أن يطلع الصباح حتى تجر رجليك إلى البيت مفكرا.... أهذا ما درستَ لأجله سبع سنين.؟؟ هاأنتذا دكتور فاقد للاحترام بمرتب أقل من الراتب الضماني لجارتك (عويشة العمشة) التي طلقها زوجها لأنها تربي الدجاج تحت السرير....هل مجتمعنا مستعد لتقبل فكرة وجود طبيب تحت الخمسين ولا يكوي كل من جاءه ولو حتى زائرا..؟ لماذا نواجه بالكراهية لمجرد أننا ليبيون في حين يقابل المغتربون بالاحترام حتى لو كانوا أجهل من أحذيتهم..؟ لماذا لا نُعذر إذا أخطأنا ..؟ فقد درسنا على أيدي دكاترة أحضرتهم الجامعة على ما يبدوا (بالكيلو) دونما أي اعتبار لمقدرتهم الأكاديمية .. وشرّحنا جثة واحدة يتم افتراسها عشوائيا منذ 9 سنين حتى لم يعد من دليل على كونها لكائن بشري سوى أيْمان الدكتور...أما تجهيزات المعامل فهي كالعادة (ناقصة) وحتى الموجود منها مبني على تقنيات تم هجرها منذ توفى خروتشوف..!! كل هذا مضغوط داخل كلية تم اختصارها إلى حجم ( حوش عربي) و يتزاحم عليه في المتوسط 200 طالب و طالبة في كل سنة معظمهم لا يستحق حتى المرور بجانب كلية طب و لم يدخلها إلا لزوم البريستيج او كي لا يزعل (البابا)...!!
وفي النهاية تصل إلى البيت وتستلقي في السرير يائسا من حياتك , إلا أنك تتذكر نصيحة جدك ( لا تيأس يا بشَار ...ابحث عن أمك) فتقرر تناسي المصاعب و العمل بمنصبك الجديد على تغيير الوضع وقلب مفاهيم المجتمع, فترتفع معنوياتك و تبتسم على الرغم من فقدك لنصف أسنانك ثم تغط في النوم آملا في غد أفضل دون أن تدري أنّ الأيام ستبدي لك صحة ما قاله لك أبوك قبل وفاته (هه كان صار منّك يا حميدة..!!).
( حاجة والله كبيرة ) يقولها أحد الأشخاص مقاطعا صرختك ... تشعر بالغضب للحظة ثم تقرر الترفع عن الرد عليه ..فأنت الآن دكتور و لا يجب أن تلتفت لأقوال العامة ..كما أنه من الممكن جدا أن ( تأكل طريحة ) تزيل ما تبقى من كرامتك ..فكلنا نعلم أن الطب لا يربي عضلات..
تذهب للمستشفى في أول يوم لك كطالب امتياز ...تلقي نظرة على هذا الصرح المكون من ثلاث طوابق كاملة و تتذكر ذلك الشعور بالرهبة الذي انتابك عندما رأيته لأول مرة ..فدراستك في الكلية لأربع سنوات لم تهيئ جهازك العصبي لتحمل أي ارتفاع عن مستوى سطح البحر..!
ترتدي معطفك الأبيض المكوي وتتبختر في الممرات حالماً...فهذا أقل ما تستحق بعد سنوات من العذاب ..و فجأة يقطع سيل أفكارك صراخ من خلفك (حول من الطريق يا فرخ..!! ) و طبقا لنمط تربيتك فإنك ستدرك أنك أنت المقصود بالفرخ فتبتعد بسرعة عن الطريق لتلاحظ ذلك العجوز الذي يجري حاملا ابنه الدامي بين ذراعيه ...بينما يتبعه ابنه الآخر بباقي أجزاء الضحية..!!
تسرع إلى حجرة الطوارئ لتجد أن الممرضين قد ابتدءوا عملهم بالفعل , فهذا يجمع الأصابع من على الأرض وذلك يرجع العينين إلى مكانهما , فلا تجد ما تفعله غير أن تقف في الزاوية مكتفيا بالدعم اللوجستي...و لا تمر لحظات حتى يموت المريض, وهو أمر متوقع خاصة إذا تم احضاره على دفعات كما هو الحال هنا .. ومع ذلك تبقى المهمة البغيضة وهي ابلاغ أهل المريض ...وهنا يلتفت إليك الممرضون في خبث و يلعبون على حقيقة أنك غر و مليء بعقد النقص فيستخدمون عبارات على غرار (عندك يا دكتور ... والله ما يقدّم حد إلا أنت ..!!) وهم يدفعونك باتجاه الباب ...فتعدل نظارتك و تسوي ياقتك ثم تخرج إلى صالة الانتظار لتجد الأب متهالكا من الحزن ...فتمسك كتفيه قائلا (البقية في عمرك يا حا...) ولا تكمل عبارتك حتى يغشي عينيك ضوء قوي تنتبه بعده لتجد أنك مكوّم في زاوية الغرفة و الدماء تنساب بغزارة من أنفك الذي اختلط بفمك إثر لكمة وجهها لك الحاج بقوة أسطورية يصعب تخيلها ..... وفي لحظات يتقافز من في الغرفة للإمساك بالحاج الذي يرغي و يزبد و يتوعدك بالويل و الثبور , بينما تتصارخ النساء داعيات على كل من يسكن بيتكم حتى القطط...فحسب وجهة نظرهم أنت المسئول عن موت ابنهم بجهلك و إهمالك وليست الحافلة التي داست على رأسه ثلاث مرات..
تجر نفسك إلى نقطة الشرطة آملا باسترجاع جزء من كرامتك .. ولا تدخلها حتى تجد أنها ممتلئة بوجهاء عائلة المريض و عقلائها (الذين اختبئوا كالجرذان أثناء المعركة ) و قد جاءوا لإقناعك بالتنازل عن حقك و إيثار الحل السلمي و أن ما حدث لا يتعدى كونه لحظة غضب بسيطة قد أدت إلى تهشيم وجهك ...تستغرب كلامهم و أنت ترى الوالد و أبناءه من بعيد و هم يشيرون إليك و يمررون أصابعهم على أعناقهم مهددينك بالذبح.... ومع ذلك تحاول تناسي ما رأيت و تقرر التوقيع على التنازل كأي مواطن ليبي صالح يخشى التعرض لمزيد من الطرائح...!!
بعد نصف ساعة تخرج من غرفة الطوارئ وقد تم فصل ملامحك عن بعضها...تلتفت يمينا و يسارا لتتأكد من عدم وجود أحد من أسرة المريض ثم تتسلل إلى القسم لتكمل مناوبتك الليلية ...وبينما تجلس حزينا مراقبا طريق الصراصير السريع تسمع صوتا من خلفك فتلتفت لتجد (فرفور) ينظر إليك في حنان وقد صعبت عليه ...و فرفور هذا لمن لا يعرفه هو كبير قبائل (القناطشة) التي نزحت إلى المستشفى على خلفية أعمال التطهير العرقي التي طالتها في المدينة.....يغيب حضرته للحظة ثم يأتيك بقطعة من اللحم يبدو أنها من قدم المريض في السرير(3) ....تلتقط القطعة لتعيد إلصاقها و أنت تتفكر في أصالة هذا المدعو (فرفور).... فالرعاية و الاهتمام التي أولته إياها إدارة المستشفى منذ استقبلته وعائلته بصدر رحب قد أثمرت فيه حس الشهامة و الكرم تجاه أولئك الأقل منه حظا..!!
في منتصف الليل تسمع من ينادي عليك فتذهب لتجد رجلا ينظر إليك باحتقار وهو يلقي إليك بابنه الذي انتبه الآن فقط إلى كونه يختنق منذ الصيف الماضي وقرر إحضاره إلى المستشفى ...تحاول فحص الابن والتغاضي عن إهانات الأب التي يلعن اليوم الذي أنزل من قدره ليأتي إلى هذا المستشفى القذر على الرغم من أنه يرتدي (كاط) يبدو من منظره أن صاحبه السابق لقي حتفه رميا بالرصاص..... و في النهاية تقوم بكتابة وصفة طبية رغم يقينك بأنه سيلقيها مع ابنه في إحدى زويا البيت لحين شحنه إلى تونس كي تعاينه البروفيسورة (صوفيا) المشهود لها بـ(إمكانياتها) المتقدمة..
و ما أن يطلع الصباح حتى تجر رجليك إلى البيت مفكرا.... أهذا ما درستَ لأجله سبع سنين.؟؟ هاأنتذا دكتور فاقد للاحترام بمرتب أقل من الراتب الضماني لجارتك (عويشة العمشة) التي طلقها زوجها لأنها تربي الدجاج تحت السرير....هل مجتمعنا مستعد لتقبل فكرة وجود طبيب تحت الخمسين ولا يكوي كل من جاءه ولو حتى زائرا..؟ لماذا نواجه بالكراهية لمجرد أننا ليبيون في حين يقابل المغتربون بالاحترام حتى لو كانوا أجهل من أحذيتهم..؟ لماذا لا نُعذر إذا أخطأنا ..؟ فقد درسنا على أيدي دكاترة أحضرتهم الجامعة على ما يبدوا (بالكيلو) دونما أي اعتبار لمقدرتهم الأكاديمية .. وشرّحنا جثة واحدة يتم افتراسها عشوائيا منذ 9 سنين حتى لم يعد من دليل على كونها لكائن بشري سوى أيْمان الدكتور...أما تجهيزات المعامل فهي كالعادة (ناقصة) وحتى الموجود منها مبني على تقنيات تم هجرها منذ توفى خروتشوف..!! كل هذا مضغوط داخل كلية تم اختصارها إلى حجم ( حوش عربي) و يتزاحم عليه في المتوسط 200 طالب و طالبة في كل سنة معظمهم لا يستحق حتى المرور بجانب كلية طب و لم يدخلها إلا لزوم البريستيج او كي لا يزعل (البابا)...!!
وفي النهاية تصل إلى البيت وتستلقي في السرير يائسا من حياتك , إلا أنك تتذكر نصيحة جدك ( لا تيأس يا بشَار ...ابحث عن أمك) فتقرر تناسي المصاعب و العمل بمنصبك الجديد على تغيير الوضع وقلب مفاهيم المجتمع, فترتفع معنوياتك و تبتسم على الرغم من فقدك لنصف أسنانك ثم تغط في النوم آملا في غد أفضل دون أن تدري أنّ الأيام ستبدي لك صحة ما قاله لك أبوك قبل وفاته (هه كان صار منّك يا حميدة..!!).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق